فصل: تَفْسِيرُ سُورَةِ الْفِيلِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تَفْسِيرُ سُورَةِ الْقَارِعَةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏الْقَارِعَةُ‏}‏‏:‏ السَّاعَةُ الَّتِي يَقْرَعُ قُلُوبَ النَّاسِ هَوْلُهَا، وَعَظِيمُ مَا يَنْـزِلُ بِهِمْ مِنْ الْبَلَاءِ عِنْدَهَا، وَذَلِكَ صَبِيحَةً لَا لَيْلَ بَعْدَهَا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الْقَارِعَةُ‏}‏ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَظَّمَهُ اللَّهُ وَحَذَّرَهُ عِبَادَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ‏}‏ قَالَ‏:‏ هِيَ السَّاعَةُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ‏}‏ قَالَ‏:‏ هِيَ السَّاعَةُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَنَّ الْقَارِعَةَ وَالْوَاقِعَةَ وَالْحَاقَّةَ‏:‏ الْقِيَامَةُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَا الْقَارِعَةُ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُعَظِّمًا شَأْنَ الْقِيَامَةِ وَالسَّاعَةِ الَّتِي يَقْرَعُ الْعِبَادَ هَوْلُهَا؛ أَيُّ شَيْءٍ الْقَارِعَةُ، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ أَيُّ شَيْءٍ السَّاعَةُ الَّتِي يَقْرَعُ الْخَلْقُ هَوْلَهَا؛ أَيْ‏:‏ مَا أَعْظَمَهَا وَأَفْظَعهَا وَأُهَوَّلُهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَمَا أَشْعَرَكَ يَا مُحَمَّدُ أَيُّ شَيْءٍ الْقَارِعَةُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفِرَاشِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَسَاقَطُ فِي النَّارِ وَالسِّرَاجِ، لَيْسَ بِبَعُوضٍ وَلَا ذُبَابٍ، وَيَعْنِي بِالْمَبْثُوثِ‏:‏ الْمُفَرَّقَ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ‏}‏ هَذَا الْفِرَاشُ الَّذِي رَأَيْتُمْ يَتَهَافَتُ فِي النَّارِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ‏}‏ قَالَ‏:‏ هَذَا شَبَهٌ شَبَّهَهُ اللَّهُ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ كَغَوْغَاءِ الْجَرَادِ، يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَذَلِكَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ، يَجُولُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَيَوْمُ تَكُونُ الْجِبَالُ كَالصُّوفِ الْمَنْفُوش؛ وَالْعِهْنِ‏:‏ هُوَ الْأَلْوَانُ مِنْ الصُّوفِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الصُّوفُ الْمَنْفُوشِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ هُوَ الصُّوفُ‏.‏ وَذُكِرَ أَنَّ الْجِبَالَ تَسِيرُ عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ فِي صُورَةِ الْجِبَالِ كَالْهَبَاءِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُ حَسَنَاتِهِ، يَعْنِي بِالْمَوَازِينِ‏:‏ الْوَزْنَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ‏:‏ لَكَ عِنْدِي دِرْهَمٌ بِمِيزَانِ دِرْهَمِكَ، وَوَزْنِ دِرْهَمِكَ، وَيَقُولُونَ‏:‏ دَارِي بِمِيزَانِ دَارِكَ وَوَزْنِ دَارِكَ، يُرَادُ‏:‏ حِذَاءُ دَارِكَ‏.‏ قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

قَـدْ كُـنْتُ قَبْـلَ لِقـائِكُمْ ذَا مِـرَّةً *** عِنْـدِي لِكُـلِّ مُخَـاصِمٍ مِيزَانُـهُ

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزَانُهُ‏:‏ كَلَامُهُ، وَمَا يَنْقَضُّ عَلَيْهِ حُجَّتُهُ‏.‏ وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ‏:‏ لَيْسَ مِيزَانٌ، إِنَّمَا هُوَ مِثْلَ ضَرْبٍ‏.‏

حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فِي عِيشَةٍ قَدْ رَضِيَهَا فِي الْجَنَّةِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ‏}‏ يَعْنِي‏:‏ فِي الْجَنَّةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَمَّا مَنْ خَفَّ وَزْنُ حَسَنَاتِهِ، فَمَأْوَاهُ وَمَسْكَنُهُ الْهَاوِيَةُ الَّتِي يَهْوِي فِيهَا عَلَى رَأْسِهِ فِي جَهَنَّمَ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ‏}‏ وَهِيَ النَّارُ هِيَ مَأْوَاهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ مَصِيرُهُ إِلَى النَّارِ، هِيَ الْهَاوِيَةُ‏.‏ قَالَ قَتَادَةُ‏:‏ هِيَ كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ شَدِيدٍ، قَالَ‏:‏ هَوَتْ أُمُّهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْمَى، قَالَ‏:‏ إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ ذَهَبَ بِرُوحِهِ إِلَى أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَقُولُونَ‏:‏ رَوِّحُوا أَخَاكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمّ الدُّنْيَا؛ قَالَ‏:‏ وَيَسْأَلُونَهُ مَا فَعَلَ فُلَانٌ‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ مَاتَ، أَوْ مَا جَاءَكُمْ‏؟‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ ذَهَبُوا بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَيْفٍ الْعِجْلِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَهْوَوْنَ فِي النَّارِ عَلَى رُءُوسِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ سَيْفٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَّارٍ، عَنْ سَعِيدِ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَهْوِي فِي النَّارِ عَلَى رَأْسِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْهَاوِيَةُ‏:‏ النَّارُ، هِيَ أُمُّهُ وَمَأْوَاهُ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا، وَيَأْوِي إِلَيْهَا، وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ‏}‏ وَهُوَ مِثْلُهَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ النَّارَ أُمَّهُ، لِأَنَّهَا صَارَتْ مَأْوَاهُ، كَمَا تُؤْوِي الْمَرْأَةُ ابْنَهَا، فَجَعَلَهَا إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَأْوَى غَيْرِهَا بِمَنْـزِلَةِ أُمٍّ لَهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَمَا أَشْعَرَكَ يَا مُحَمَّدُ مَا الْهَاوِيَةُ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا هِيَ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏نَارٌ حَامِيَةٌ‏}‏، يَعْنِي بِالْحَامِيَةِ‏:‏ الَّتِي قَدْ حَمِيَتْ مِنِ الْوَقُودِ عَلَيْهَا‏.‏

آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقَارِعَةُ‏.‏

تَفْسِير سُورَةِ ‏{‏أَلْهَاكُمْ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلًّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلًّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَلْهَاكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ الْمُبَاهَاةُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْعَدَدِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّكُمْ، وَعَمَّا يُنْجِيكُمْ مِنْ سُخْطِهِ عَلَيْكُمْ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانُوا يَقُولُونَ‏:‏ نَحْنُ أَكْثَرُ مَنْ بَنِي فُلَانٍ، وَنَحْنُ أَعَدَّ مَنْ بَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ كُلُّ يَوْمٍ يَتَسَاقَطُونَ إِلَى آخِرِهِمْ، وَاللَّهِ مَا زَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ كُلُّهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ‏}‏ قَالُوا‏:‏ نَحْنُ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، وَبَنُو فُلَانٍ أَكْثَرَ مَنْ بَنِي فُلَانٍ، أَلْهَاهُمْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتُوا ضَلَالًا‏.‏

وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ التَّكَاثُرُ بِالْمَالِ‏.‏

ذِكْرُ الْخَبَرِ بِذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، «عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَقْرَأُ‏:‏ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ اِبْنُ آدَمَ، لَيْسَ لَكَ مِنْ مَالٍ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ ‏"‏»‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا آدَمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبَنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ‏:‏ كُنَّا نَرَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ الْقُرْآنِ‏:‏ ‏"‏لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ، لَتَمَنَّى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفُ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابَ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَاب‏"‏ حَتَّى نَـزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةِ‏:‏ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ‏}‏ إِلَى آخِرِهَا‏.‏ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَقَبِ قِرَاءَتِهِ ‏"‏أَلْهَاكُم‏"‏ لَيْسَ لَك مِنْ مَالِكَ إِلَّا كَذَا وَكَذَا، يُنْبِئُ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُ‏:‏ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ‏:‏ الْمَالُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏ يَعْنِي‏:‏ حَتَّى صِرْتُمْ إِلَى الْمَقَابِرِ فَدُفِنْتُمْ فِيهَا؛ وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى صِحَّةِالْقَوْلِ بِعَذَابِ الْقَبْرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، أَخْبَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَلْهَاهُمْ التَّكَاثُرُ، أَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ مَا يُلْقُونَ إِذَا هُمْ زَارُوا الْقُبُورَ وَعِيدًا مِنْهُ لَهُمْ وَتَهَدُّدًا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ‏:‏ كُنَّا نَشُكُّ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ، حَتَّى نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ‏:‏ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى‏:‏ ‏{‏كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ‏:‏ نَـزَلَتْ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ‏}‏ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَكَّامٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ‏:‏ مَا زِلْنَا نَشُكُّ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ، حَتَّى نَـزَلَتْ‏:‏ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ كَلَّا مَا هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلُوا، أَنْ يُلْهِيَكُمُ التَّكَاثُرُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ سَوْفَ تَعْلَمُونَ إِذَا زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، أَيُّهَا الَّذِينَ أَلْهَاهُمُ التَّكَاثُرُ، غَبَّ فَعِلُكُمْ، وَاشْتِغَالُكُمْ بِالتَّكَاثُرِ فِي الدُّنْيَا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ رَبِّكُمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ ثُمَّ مَا هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلُوا أَنْ يُلْهِيَكُمُ التَّكَاثُرُ بِالْأَمْوَالِ، وَكَثْرَةً الْعَدَدِ، سَوْفَ تَعْلَمُونَ إِذَا زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، مَا تُلْقُونَ إِذَا أَنْتُمْ زُرْتُمُوهَا، مِنْ مَكْرُوهِ اشْتِغَالِكُمْ عَنْ طَاعَةِ رَبِّكُمْ بِالتَّكَاثُرِ‏.‏ وَكَرَّرَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَرَادَتِ التَّغْلِيظُ فِي التَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ كَرَّرُوا الْكَلِمَةَ مَرَّتَيْنِ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ الضَّحَّاكِ ‏{‏كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْكُفَّارُ ‏{‏ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْمُؤْمِنُونَ‏.‏ وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَأُهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ مَا هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلُوا، أَنْ يُلْهِيَكُمُ التَّكَاثُرُ أَيُّهَا النَّاسُ، لَوْ تَعْلَمُونَ أَيُّهَا النَّاسُ عِلْمًا يَقِينًا، أَنَّ اللَّهَ بَاعِثُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ مَا أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ رَبِّكُمْ، وَلَسَارَعْتُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَرَفْضِ الدُّنْيَا إِشْفَاقًا عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِنْ عُقُوبَتِهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ‏}‏ كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ عِلْمَ الْيَقِينِ‏:‏ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ بَاعِثُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ‏}‏ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ؛ فَقَرَأَتْهُ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ‏:‏ ‏{‏لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ‏}‏ بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ ‏(‏لَتَرَوُنَّ‏)‏ فِي الْحَرْفَيْنِ كِلَيْهِمَا، وَقَرَأَ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ الْأُولَى، وَفَتْحِهَا مِنْ الثَّانِيَةِ‏.‏

وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ الْفَتْحُ فِيهِمَا كِلَيْهِمَا؛ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ‏.‏ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ لَتَرْوُنَّ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ جَهَنَّم يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ لَتَرْوُنَّهَا عِيَانًا لَا تَغِيبُونَ عَنْهَا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ‏}‏ يَعْنِي‏:‏ أَهَّلَ الشِّرْكِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ ثُمَّ لَيَسْأَلْنَّكُمُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنِ النَّعِيمِ الَّذِي كُنْتُمْ فِيهِ فِي الدُّنْيَا‏:‏ مَاذَا عَمِلْتُمْ فِيهِ، مِنْ أَيْنَ وَصَلْتُمْ إِلَيْهِ، وَفِيمَ أَصَبْتُمُوهُ، وَمَاذَا عَمِلْتُمْ بِهِ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ النَّعِيمِ مَا هُوَ‏؟‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَفْصٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْكَِنْدِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ‏:‏ بَلَغَنِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ‏:‏ النَّعِيمُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏:‏ الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ خَالِدٍ الزَّيَّاتِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، مِثْلَهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ ‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ ثُمَّ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا وُهِبَ لَهُمْ مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ قَالَ‏:‏ النَّعِيمُ‏:‏ صِحَّةُ الْأَبْدَانِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ، قَالَ‏:‏ يَسْأَلُ اللَّهُ الْعِبَادَ فِيمَ اسْتَعْمَلُوهَا، وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الْفَزَارِيُّ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ شَاكِرٍ، عَنْ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ قَالَ‏:‏ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ، وَصِحَّةُ الْبَدَنِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ الْعَافِيَةُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا نُوحُ بْنُ دَرَّاجٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْعَافِيَةُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ‏:‏ بَعْضَ مَا يُطْعِمُهُ الْإِنْسَانُ، أَوْ يَشْرَبُهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ بُكَِيْرِ بْنِ عَتِيقٍ، قَالَ‏:‏ رَأَيْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ أُتِيَ بِشَرْبَةِ عَسَلٍ، فَشَرِبَهَا، وَقَالَ‏:‏ هَذَا النَّعِيمُ الَّذِي تُسْألُونَ عَنْهُ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِلَالٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، «عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ‏:‏ أَتَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَأَطْعَمْنَاهُمْ رَطْبًا، وَسَقَيْنَاهُمْ مَاءً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ ‏"‏»‏.‏

حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ الْكُرْدِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ‏:‏ أَتَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الصُّدائِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كِيسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ بَيْنَمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَالِسَانِ؛ إِذْ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏مَا أَجْلَسَكُمَا هَاهُنَا‏؟‏ ‏"‏ قَالَا‏:‏ الْجُوعُ‏.‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا أَخْرَجَنِي غَيْرُه‏"‏ فَانْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوْا بَيْتَ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَاسْتَقْبَلَتْهُمُ الْمَرْأَةُ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏أَيْنَ فُلَانُ‏؟‏ ‏"‏ فَقَالَتْ‏:‏ ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مَاءً، فَجَاءَ صَاحِبُهُمْ يَحْمِلُ قِرْبَتَهُ، فَقَالَ‏:‏ مَرْحَبًا، مَا زَارَ الْعِبَادُ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ شَيْءٍ زَارَنِي الْيَوْمَ، فَعَلَّقَ قِرْبَتَهُ بِكَرَبِ نَخْلَةٍ، وَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏أَلَّا كُنْتَ اجْتَنَيْتَ‏؟‏ ‏"‏ فَقَالَ‏:‏ أَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونُوا الَّذِينَ تَخْتَارُونَ عَلَى أَعْيُنِكُمْ، ثُمَّ أَخَذَ الشَّفْرَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏إِيَّاكَ وَالْحَلُوب‏"‏ فَذَبَحَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ، فَأَكَلُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، فَلَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَبْتُمْ هَذَا، فَهَذَا مِنَ النَّعِيمِ ‏"‏»‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، قَالَ ثَنَا شَيَّبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمْرَ‏:‏ ‏"‏اِنْطَلِقُوا بِنَا إِلَى أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيَّهانِ الْأَنْصَارِيِّ ‏"‏، فَانْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى ظِلِّ حَدِيقَتِهِ، فَبَسَطَ لَهُمْ بِسَاطًا، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى نَخْلَةٍ، فَجَاءَ بِقِنْوٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ فَهَلَّا تَنَقَّيْتَ لَنَا مِنْ رُطَبِهِ‏؟‏ ‏"‏ فَقَالَ‏:‏ أَرَدْتُ أَنْ تَخَيَّرُوا مِنْ رُطَبِهِ وَبُسْرِهِ، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا مِنَ الْمَاءِ؛ فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ هَذَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مِنَ النَّعِيمِ، الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مَسْئُولُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، هَذَا الظِّلُّ الْبَارِدُ، وَالرُّطَبُ الْبَارِدُ، عَلَيْهِ الْمَاءُ الْبَارِد»‏.‏

حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ الْمروزيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا شَيَّبَانُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ‏:‏ «ظِلٌّ بَارِدٌ، وَرُطَبٌ بَارِدٌ، وَمَاءٌ بَارِد»‏.‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْبَزَّازُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ حَشْرَجَ بْنِ نَبَاتَةَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو بَصِيرَةَ «عَنْ أَبِي عَسِيبٍ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ‏:‏ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ‏:‏ ‏"‏أَطْعِمْنَا بُسْرًا‏"‏ فَجَاءَ بِعِذْقٍ فَوَضَعَهُ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ بَارِدٍ فَشَرِبَ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَة‏"‏ فَأَخَذَ عُمْرُ الْعِذْقَ، فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ حَتَّى تَنَاثَرَ الْبُسْر، ثُمَّ قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَمَسْئُولُونَ عَنْ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ نَعَمْ، إِلَّا مِنْ كِسْرَةٍ يُسَدُّ بِهَا جَوْعَةٌ، أَوْ حُجْرٌ يُدْخَلُ فِيهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ ‏"‏»‏.‏

حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُونِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ حَشْرَجَ بْنِ نَبَاتَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبُو بَصِيرَةَ، «عَنْ أَبِي عَسِيبٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ‏:‏ مَرَّ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَانِي وَخَرَجْتُ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ رِضِي اللَّهُِ عَنْهُمَا، فَدَخَلَ حَائِطًا لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ، فَأُتِيَ بِبُسْرِ عِذْقٍ مِنْهُ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَكَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ بَارِدٍ، فَشَرِبَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏"‏لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَة‏"‏ فَقَالَ عُمْرُ‏:‏ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ نَعَمْ، إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ‏:‏ خِرْقَةٍ كَفَّ بِهَا عَوْرَتَهُ، أَوْ كِسْرَةٍ سَدَّ بِهَا جَوْعَتَةُ، أَوْ جُحْرٍ يَدْخُلُ فِيهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ ‏"‏»‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي بَصِيرَةَ، قَالَ‏:‏ «أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَكْلَةً مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ لَمْ يُنْخَلْ بِلَحْمٍ سَمِينٍ، ثُمَّ شَرِبُوا مَنْ جَدْوَلٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ هَذَا كُلُّهُ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏"‏»‏.‏

حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ‏:‏ ‏"‏لَمَّا نَـزَلَتْ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ‏}‏ فَقَرَأَهَا حَتَّى بَلَغَ‏:‏ ‏{‏لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَنْ أَيِّ النَّعِيمِ نُسْأَلُ، وَإِنَّمَا هُوَ الْأَسْوَدَانِ‏:‏ الْمَاءُ، وَالتَّمْرُ، وَسُيُوفُنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا، وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ‏!‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ ‏"‏»‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَالْحُسَيْنُ بْنِ عَلِيٍّ الصُّدَائِيُّ، قَالَا ثَنَا شَبَّابَة بْنُ سَوَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ أَبُو رَزِينٌ الشَّامِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عَرْزَمٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ‏:‏ قَالَ‏:‏ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ‏:‏ أَلَمَّ نُصِحَّ لَك جِسْمَكَ، وَتُرْوَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِد» ‏"‏‏؟‏‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَخْبَرَةَ‏:‏ مَا أَصْبَحَ أَحَدٌ بِالْكُوفَةِ إِلَّا نَاعِما، إِنَّ أَهُوَنَهُمْ عَيْشًا الَّذِي يَأْكُلُ خُبْزَ الْبُرِّ، وَيَشْرَبُ مَاءَ الْفُرَاتِ، وَيَسْتَظِلُّ مِنْ الظِّلِّ، وَذَلِكَ مِنْ النَّعِيمِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ التَّمِيمِيِّ، عَنْ ثَابِتٍ الْبَنَانِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «النَّعِيمُ‏:‏ الْمَسْئُولُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏:‏ كِسْرَةٌ تُقَوِّيهِ، وَمَاءٌ يُرْوِيهِ، وَثَوْبٌ يُوَارِيه»‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ يَمَنٍ يَقُولُ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ‏:‏ النَّعِيمُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏:‏ خُبْزُ الْبُرِّ، وَالْمَاءُ الْعَذْبِ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَتِيقٍ الْعَامِرِيِّ، قَالَ‏:‏ أُتِيَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِشَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقَالَ‏:‏ أَمَا إِنَّ هَذَا النَّعِيمَ الَّذِي نُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَتِيقٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ أُتِيَ بِشَرْبَة عَسَلٍ، فَقَالَ‏:‏ هَذَا مِنْ النَّعِيمِ الَّذِي تُسألون عَنْهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ ذَلِكَ كُلُّ مَا الْتَذَّهُ الْإِنْسَان فِي الدُّنْيَا مِنْ شَيْءٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ قَالَ‏:‏ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ لَذَّةِ الدُّنْيَا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَائِلٌ كُلُّ عَبْدٍ عَمَّا اسْتَوْدَعَهُ مِنْ نِعَمِهِ وَحَقِّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ قَالَ‏:‏ إِنْ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ سَائِلٌ كُلُّ ذِي نِعْمَةٍ فِيمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ‏.‏

وَكَانَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ يَقُولَانِ‏:‏ ثَلَاثٌ لَا يُسْأَلُ عَنْهُنَّ ابْنُ آدَمَ، وَمَا خَلَّاهُنَّ فِيهِ الْمَسْأَلَةُ وَالْحِسَابُ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ‏:‏ كُسْوَةٌ يُوَارِي بِهَا سَوْأَتَهُ، وَكَسْرَةٌ يَشُدُّ بِهَا صُلْبَه، وَبَيْتٌ يَظَلُّهُ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ‏:‏ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَائِلٌ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَنِ النَّعِيمِ، وَلَمْ يُخَصَّصْ فِي خَبَرِهِ أَنَّهُ سَائِلُهُمْ عَنْ نَوْعٍ مِنْ النَّعِيمِ دُونَ نَوْعٍ، بَلْ عَمَّ بِالْخَبَرِ فِي ذَلِكَ عَنْ الْجَمِيعِ، فَهُوَ سَائِلُهُمْ كَمَا قَالَ عَنْ جَمِيعِ النَّعِيمِ، لَا عَنْ بَعْضٍ دُونِ بَعْضٍ‏.‏

آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ أَلْهَاكُمْ

تَفْسِيرُ سُورَةِ الْعَصْرِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيل قَوْله‏:‏ ‏{‏وَالْعَصْرِ‏}‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ رَبُّنَا تَعَالَى ذِكْرُهُ بِالدَّهْرِ، فَقَالَ‏:‏ الْعَصْرُ‏:‏ هُوَ الدَّهْرُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالْعَصْرِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْعَصْرُ‏:‏ سَاعَةٌ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الْحَسَنِ ‏{‏وَالْعَصْرِ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ الْعَشِيُّ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ‏:‏ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ رَبَّنَا أَقْسَمَ بِالْعَصْرِ ‏{‏وَالْعَصْرِ‏}‏ اسْمٌ لِلدَّهْرِ، وَهُوَ الْعَشِيُّ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَمْ يُخَصَّصْ مِمَّا شَمَلَهُ هَذَا الِاسْمُ مَعْنًى دُونَ مَعْنًى، فَكُلُّ مَا لَزِمَهُ هَذَا الِاسْمُ، فَدَاخِلٌ فِيمَا أَقْسَمَ بِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ ابْنَ آدَمَ لَفِي هَلَكَةٍ وَنُقْصَانٍ‏.‏

وَكَانَ عَلِيٌّ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْر وَإِنَّهُ فِيهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي ابْن عَبْد الْأَعْلَى بْن وَاصِلٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو نَعِيمٍ الْفَضْلُ بْنُ دَكَّيْنِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرٍو ذِي مَرٍّ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عَلِيًّا رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ ‏{‏وَالْعَصْرِ وَنَوَائِبِ الدَّهْرِ إنَ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ وَإِنَّهُ فِيهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ‏}‏ فَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ ‏{‏وَإِنَّهُ فِيهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو ذِي مَرٍّ، أَنَّ عَلِيًّا رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَهَا ‏{‏وَالْعَصْرِ وَنَوَائِبِ الدَّهْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ‏}‏ إِلَّا مَنْ آمَنَ ‏{‏إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِلَّا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّه وَوَحَّدُوهُ، وَأَقَرُّوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالطَّاعَةِ، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَأَدَّوْا مَا لَزِمَهُمْ مِنْ فَرَائِضِهِ، وَاجْتَنَبُوا مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ مَعَاصِيهِ، وَاسْتَثْنَى الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، لَا بِمَعْنَى الْوَاحِدِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِلُزُومِ الْعَمَلِ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، مِنْ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ فِيهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ‏}‏ وَالْحُقُّ‏:‏ كِتَابُ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الْحَسَنِ ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْحَقُّ‏:‏ كِتَابُ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْكَلَاعِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا خَطَّابُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن سِنَانٍ أَبُو رُوحٍ السُّكُونِيُّ، حِمْصِيٌّ لَقِيتُهُ بِإِرْمِينِيَّةَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ فِي ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْحَقُّ‏:‏ كِتَابُ اللَّهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالصَّبْرِ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَةِ اللَّهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الصَّبْرُ‏:‏ طَاعَةُ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الكَلَاعِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا خَطَّابُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ سِنَانٍ أَبُو رُوحٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الصَّبْرُ‏:‏ طَاعَةُ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الْحَسَنِ ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الصَّبْرُ‏:‏ طَاعَةُ اللَّهِ‏.‏

آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ وَالْعَصْرِ

تَفْسِيرُ سُورَةِ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمْزَةٍ‏}‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلًّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارٌ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ‏}‏‏.‏

يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏

‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ‏}‏ الْوَادِي يَسِيلُ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ وَقَيْحِهِمْ، ‏{‏لِكُلِّ هُمَزَةٍ‏}‏‏:‏ يَقُولُ‏:‏ لِكُلِّ مُغْتَابٍ لِلنَّاسِ، يَغْتَابُهُمْ وَيُبْغِضُهُمْ، كَمَا قَالَ زِيَادُ الْأَعْجَمِ‏:‏

تُـدِلِي بِـوُدِّي إِذَا لَاقَيْتَنِـي كَذِبَـا *** وَإِنْ أُغَيَّـبْ فَـأَنْتَ الْهَـامِزُ اللُّمَـزَهْ

وَيَعْنِي بِاللُّمَزَةِ‏:‏ الَّذِي يَعِيبُ النَّاسَ، وَيَطْعَنُ فِيهِمْ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مَسْرُوقُ بْنُ أَبَانَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمِّهِ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، قَالَ‏:‏ قُلْتُ لِابْن عَبَّاسٍ‏:‏ مَنْ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ بَدَأَهُمُ اللَّهُ بِالْوَيْلِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هُمُ الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ أَكْبَرَ الْعَيْبِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ لِابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَدَبَهُمُ اللَّهُ إِلَى الْوَيْلِ‏؟‏ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ مَسْرُوقِ بْنِ أَبَانَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْهُمَزَةُ‏:‏ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ، وَاللُّمَزَةُ‏:‏ الطِّعَانُ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ خِلَافَ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْهُمَزَةُ‏:‏ الطِّعَانُ، وَاللُّمَزَةُ‏:‏ الَّذِي يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ‏.‏

حَدَّثَنَا مَسْرُوقُ بْنُ أَبَانَ الْحَطَّابُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا خِلَافَ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَحَدُهُمَا الَّذِي يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ، وَالْآخَرُ الطِّعَانُ‏.‏ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَدْ كَانَ أُشْكِلَ عَلَيْهِ تَأْوِيلَ الْكَلِمَتَيْن، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ نَقْلُ الرُّوَاةِ عَنْهُ فِيمَا رَوَوْا عَلَى مَا ذَكَرْتُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ‏}‏ أَمَّا الْهُمَزَةُ‏:‏ فَأَكْلُ لُحُومِ النَّاسِ، وَأَمَّا اللُّمَزَةُ‏:‏ فَالطِّعَانُ عَلَيْهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عُرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ الْهُمَزَةُ‏:‏ أكْلُ لُحُومِ النَّاسِ، وَاللُّمَزَةُ‏:‏ الطِّعَانُ عَلَيْهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ خَثِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ وَيْلٌ لِكُلِّ طِعَانٍ مُغْتَابٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ‏:‏ الْهُمَزَةُ‏:‏ يَهْمِزُهُ فِي وَجْهِهِ، وَاللُّمَزَةُ‏:‏ مِنْ خَلْفِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ يَهْمِزُهُ وَيَلْمِزُهُ بِلِسَانِهِ وَعَيْنِهِ، وَيَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَطْعَنُ عَلَيْهِمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ الْهُمَزَةُ بِالْيَدِ، وَاللُّمَزَةُ بِاللِّسَانِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْهُمَزَةُ‏:‏ الَّذِي يَهْمِزُ النَّاسَ بِيَدِهِ، وَيَضْرِبُهُمْ بِلِسَانِهِ، وَاللُّمَزَةُ‏:‏ الَّذِي يَلْمُزُهُمْ بِلِسَانِهِ وَيَعِيبُهُمْ‏.‏

وَاخْتَلَفَ فِي الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ‏}‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عُنِيَ بِذَلِكَ‏:‏ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ بِعَيْنِهِ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلُ‏:‏ هُوَ جَمِيلُ بْنُ عَامِرٍ الْجُمَحِيُّ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ‏:‏ هُوَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ‏:‏ عُنِيَ بِهِ مُشْرِكٌ بِعَيْنِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ مُشْرِكٌ كَانَ يَلْمِزُ النَّاسَ وَيَهْمِزَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الرِّقَّةِ قَالَ‏:‏ نَـزَلَتْ فِي جَمِيلِ بْنِ عَامِرٍ الْجُمَحِيِّ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَيْسَتْ بِخَاصَّةٍ لِأَحَد، نَـزَلَتْ فِي جَمِيلِ بْنِ عَامِرٍ؛ قَالَ وَرْقَاءُ‏:‏ زَعَمَ الرَّقَاشِيُّ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ‏:‏ هَذَا مِنْ نَوْعٍ مَا تَذْكُرُ الْعَرَبُ اسْمَ الشَّيْءِ الْعَامِّ، وَهِيَ تَقْصِدُ بِهِ الْوَاحِدَ، كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ، إِذَا قَالَ رَجُلٌ لِأَحَدٍ‏:‏ لَا أَزُورُك أَبَدًا‏:‏ كُلُّ مَنْ لَمْ يَزُرْنِي، فَلَسْتُ بِزَائِرِهِ، وَقَائِلُ ذَلِكَ يَقْصِدُ جَوَابَ صَاحِبِهِ الْقَائِلِ لَهُ‏:‏ لَا أَزُورُك أَبَدًا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنِيٌّ بِهِ؛ كُلُّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ صِفَتُهُ، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ قَصْدًا آخَرَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو‏.‏ قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَهُ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَيْسَتْ بِخَاصَّةٍ لِأَحَدٍ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ‏:‏ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ عَمَّ بِالْقَوْلِ كُلُّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، كُلُّ مَنْ كَانَ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَ هَذَا الْمَوْصُوفَ بِهَا، سَبِيلُهُ سَبِيلُهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ‏}‏‏.‏

يَقُولُ‏:‏ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَأَحْصَى عَدَدَهُ، وَلَمْ يُنْفِقْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤَدِّ حَقَّ اللَّهِ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ جَمَعَهُ فَأَوْعَاهُ وَحَفِظَهُ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ مِنْ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَبُو جَعْفَرَ، وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ سِوَى عَاصِمٍ‏:‏ ‏"‏جَمَّع‏"‏ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ، سِوَى أَبِي جَعْفَرٍ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ، وَمِنْ الْكُوفَةِ عَاصِمٌ، ‏"‏جَمَع‏"‏ بِالتَّخْفِيفِ، وَكُلُّهمْ مُجْمِعُونَ عَلَى تَشْدِيدِ الدَّالِّ مِنْ ‏{‏وَعَدَّدَهُ‏}‏ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ تَأْوِيلِهِ‏.‏ وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِإِسْنَادٍ غَيْرِ ثَابِتٍ، أَنَّهُ قَرَأَهُ‏:‏ ‏"‏جَمَعَ مَالًا وَعَدَدَهُ ‏"‏ بِتَخْفِيفِ الدَّالِّ، بِمَعْنَى‏:‏ جَمَعَ مَالًا وَجَمَعَ عَشِيرَتَهُ وَعَدَدَهُ‏.‏ هَذِهِ قِرَاءَةٌ لَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِهَا، بِخِلَافِهَا قِرَاءَة ُالْأَمْصَارِ، وَخُرُوجِهَا عَمَّا عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مُجْمِعَةٌ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَأُمًّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏جَمَعَ مَالًا‏}‏ فَإِنَّ التَّشْدِيدَ وَالتَّخْفِيفَ فِيهِمَا صَوَابَانِ؛ لِأَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ‏}‏‏.‏

يَقُولُ‏:‏ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ الَّذِي جَمَعَهُ وَأَحْصَاهُ، وَبَخِلَ بِإِنْفَاقِهِ، مُخْلِّدُهُ فِي الدُّنْيَا، فَمُزِيلُ عَنْهُ الْمَوْتَ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ أَخْلَدَهُ، وَالْمَعْنَى‏:‏ يُخَلِّدُهُ، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَأْتِي الْأَمْرَ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِهَلَاكِهِ‏:‏ عَطِبَ وَاللَّهِ فُلَانٌ، هَلَكَ وَاللَّهِ فُلَانٌ، بِمَعْنَى‏:‏ أَنَّهُ يَعْطَبُ مِنْ فِعْلِهِ ذَلِكَ، وَلَمَا يَهْلَكُ بَعْدُ وَلَمْ يَعْطَبْ؛ وَكَالرَّجُلِ يَأْتِي الْمُوبِقَةَ مِنْ الذُّنُوبِ‏:‏ دَخَلَ وَاللَّهِ فُلَانٌ النَّارَ‏.‏

وَقَوْله‏:‏ ‏(‏كَلًّا‏)‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ مَا ذَلِكَ كَمَا ظَنَّ، لَيْسَ مَالُهُ مُخَلِّدُهُ،

ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ هَالِكٌ وَمُعَذَّبٌ عَلَى أَفْعَالِهِ وَمَعَاصِيهِ الَّتِي كَانَ يَأْتِيهَا فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لِيُقْذَفُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْحُطْمَةِ، وَالْحُطْمَةُ‏:‏ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ، كَمَا قِيلَ لَهَا‏:‏ جَهَنَّمُ وَسَقَرُ وَلَظَى، وَأَحْسَبُهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِحَطَمِهَا كُلَّ مَا أُلْقِيَ فِيهَا، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ الْأَكُولِ‏:‏ الْحَطْمَةُ‏.‏ ذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ‏:‏ ‏"‏لَيُنْبَذَانِّ فِي الْحُطَمَة‏"‏ يَعْنِي‏:‏ هَذَا الْهُمَزَةَ اللُّمَزَةَ وَمَالَهُ، فَثَنَّاهُ لِذَلِكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَيُّ شَيْءٍ أَشْعَرَكَ يَا مُحَمَّدُ مَا الْحُطْمَةُ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ عَنْهَا مَا هِيَ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ هِيَ ‏{‏نَارٌ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ الَّتِي يَطَّلِعُ أَلَمُهَا وَوَهَجُهَا الْقُلُوبَ؛ وَالِاطِّلَاعُ وَالْبُلُوغُ قَدْ يَكُونَانِ بِمَعْنَى حُكِيَ عَنْ الْعَرَبِ سَمَاعًا‏:‏ مَتَى طَلَعَتْ أَرْضُنَا؛ وَطَلَعَتْ أَرْضِي‏:‏ بَلَغَتْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّ الْحُطْمَةَ الَّتِي وَصَفْتُ صِفَتَهَا عَلَيْهِمْ، يَعْنِي‏:‏ عَلَى هَؤُلَاءِ الْهَمَّازِينَ اللَّمَّازِينَ ‏(‏مُؤْصَدَةٌ‏)‏‏:‏ يَعْنِي‏:‏ مُطَبَقَةً؛ وَهِيَ تَهْمِزُ وَلَا تَهْمِزُ؛ وَقَدْ قُرِئَتَا جَمِيعًا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا طَلْقٌ، عَنِ ابْنِ ظُهَيْرٍ، عَنْ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ‏(‏مُؤْصَدَةٌ‏)‏‏:‏ قَالَ‏:‏ مُطَبَقَةٌ‏.‏

حَدَّثَنِي عُبَيْدٌ بْنُ أَسْبَاطِ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ مُطَبَقَةٌ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ فِي النَّارِ رَجُلٌ فِي شُعِبٍ مِنْ شِعَابِهَا يُنَادِي مِقْدَارَ أَلْفَ عَامٍ‏:‏ يَا حَنَّانُ يَا حَنَّانُ، فَيَقُولُ رَبَّ الْعِزَّةِ لِجِبْرِيلَ‏:‏ أَخْرَجَ عَبْدِي مِنْ النَّارِ، فَيَأْتِيهَا فَيَجِدُهَا مُطَبَقَةً، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ‏:‏ يَا رَبُّ ‏{‏إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ‏}‏ فَيَقُولُ‏:‏ يَا جِبْرِيلُ فَكِّهَا، وَأَخْرِجْ عَبْدِي مِنْ النَّارِ، فَيَفُكُّهَا، وَيَخْرُجُ مِثْلَ الْخَيَالِ، فَيُطْرَحُ عَلَى سَاحِلِ الْجَنَّةِ حَتْي يُنْبِتُ اللَّهُ لَهُ شَعْرًا وَلَحْمًا وَدَمًا‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ مُطَبَقَةٌ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كَرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مُضَرِّسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ ‏{‏إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ مُطَبَقَةٌ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ عَلَيْهِمْ مُغْلَقَةٌ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ‏}‏ أَيْ‏:‏ مُطَبَقَةٌ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ مُطَبَقَةٌ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ‏:‏ أَوْصَدَ الْبَابَ‏:‏ أَغْلَقَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ‏}‏ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ‏:‏ ‏(‏فِي عَمَدٍ‏)‏ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ‏:‏ ‏"‏فِي عُمُد‏"‏ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ‏.‏ وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءٌ مِنْ الْقُرَّاءِ، وَلُغَتَانِ صَحِيحَتَانِ‏.‏ وَالْعَرَبُ تَجْمَعُ الْعَمُودَ‏:‏ عُمُدًا وَعَمَدَا، بِضَمِّ الْحَرْفَيْنِ وَفَتْحِهِمَا، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ فِي جَمْعِ إِهَابٍ، تَجْمَعُهُ‏:‏ أُهُبًا، بِضَمِّ الْأَلِفِ وَالْهَاءِ، وَأَهَبًا بِفَتْحِهِمَا، وَكَذَلِكَ الْقَضْم، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ بِعَمْد مُمَدَّدَةٍ‏}‏ أَيْ‏:‏ مُغْلَقَةٌ مُطْبَقَةٌ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا بَلَغَنَا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ بِعَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ إِنَّمَا دَخَلُوا فِي عَمَدٍ، ثُمَّ مَدَّتْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْعُمَدُ بِعِمَادٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَدْخَلَهُمْ فِي عَمَدٍ، فَمَدَّتْ عَلَيْهِمْ بِعِمَادٍ، وَفِي أَعْنَاقِهِمْ السَّلَاسِلُ، فَسَدَّتْ بِهَا الْأَبْوَابُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ ‏(‏فِي عَمَدٍ‏)‏ مِنْ حَدِيدٍ مَغْلُولَيْنِ فِيهَا، وَتِلْكَ الْعُمَدُ مِنْ نَارٍ قَدْ احْتَرَقَتْ مِنْ النَّارِ، فَهِيَ مِنْ نَارٍ ‏(‏مُمَدَّدَةٍ‏)‏ لَهُمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هِيَ عَمَدٌ يُعَذَّبُونَ بِهَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ‏}‏ كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهَا عَمَدٌ يُعَذَّبُونَ بِهَا فِي النَّارِ، قَالَ بِشْرٌ‏:‏ قَالَ يَزِيدُ‏:‏ فِي قِرَاءَةِ قَتَادَةَ‏:‏ ‏(‏عَمَدٍ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ عَمُودٌ يُعَذَّبُونَ بِهِ فِي النَّارِ‏.‏

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ بِعَمَدٍ فِي النَّارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ تَعْذِيبُهُ إِيَّاهُمْ بِهَا، وَلَمْ يَأْتِنَا خَبَرٌ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ بِصِفَةِ تَعْذِيبِهِمْ بِهَا، وَلَا وُضِعَ لَنَا عَلَيْهَا دَلِيلٌ، فَنُدْرِكُ بِهِ صِفَةَ ذَلِكَ، فَلَا قَوْلَ فِيهِ، غَيْرَ الَّذِي قُلْنَا يَصِحُّ عِنْدَنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَة الْهُمَزَة

تَفْسِيرُ سُورَةِ الْفِيلِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَلَمْ تَنْظُرْ يَا مُحَمَّدُ بِعَيْنِ قَلْبِكَ، فَتَرَى بِهَا ‏{‏كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ‏}‏ الَّذِينَ قَدِمُوا مِنْ الْيَمَنِ يُرِيدُونَ تَخْرِيبَ الْكَعْبَةِ مِنْ الْحَبَشَةِ وَرَئِيسُهُمْ أَبَرْهَةُ الْحَبَشِيُّ الْأَشْرَمُ ‏{‏أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ‏}‏‏.‏

يَقُولُ‏:‏ أَلَمْ يَجْعَلْ سَعْيَ الْحَبَشَةِ أَصْحَابَ الْفِيلِ فِي تَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ ‏{‏فِي تَضْلِيلٍ‏}‏ يَعْنِي‏:‏ فِي تَضْلِيلِهِمْ عَمَّا أَرَادُوا وَحَاوَلُوا مِنْ تَخْرِيبِهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رَبَّك طَيْرًا مُتَفَرِّقَةً، يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا مِنْ نَوَاحٍ شَتَى؛ وَهِيَ جِمَاعٌ لَا وَاحِدَ لَهَا، مِثْلَ الشَّمَاطِيطُ وَالْعَبَادِيدُ وَنَحْوَ ذَلِكَ‏.‏ وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى، أَنَّهُ لَمْ يَرَ أَحَدًا يُجْعَلُ لَهَا وَاحِدًا‏.‏ وَقَالَ الْفَرَّاءُ‏:‏ لَمْ أَسْمَعْ مِنْ الْعَرَبِ فِي تَوْحِيدِهَا شَيْئًا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَزَعَمَ أَبُو جَعْفَرٍ الرُّؤاسِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَّ وَاحِدَهَا‏:‏ إِبَّالَةٌ‏.‏ وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَقُولُ‏:‏ سَمِعْتُ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُونَ‏:‏ إبُول، مِثْلَ الْعُجُولِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَقَدْ سَمِعْتُ بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُ‏:‏ وَاحِدُهَا‏:‏ أُبِيلَ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي الْأَبَابِيل‏:‏ قَالَ أَهْل التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمِ ابْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏طَيْرًا أَبَابِيلَ‏}‏ قَالَ‏:‏ فِرَقٌ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ الْفِرَقُ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيٍّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏طَيْرًا أَبَابِيلَ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ‏}‏ قَالَ‏:‏ هِيَ الَّتِي يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا دَاوُدُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلَ، أَنَّهُ قَالَ فِي‏:‏ ‏{‏طَيْرًا أَبَابِيلَ‏}‏ قَالَ‏:‏ هِيَ الْأَقَاطِيعُ، كَالْإِبِلِ الْمُؤَبَّلَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَعْقُوبُ القُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى ‏{‏طَيْرًا أَبَابِيلَ‏}‏ قَالَ‏:‏ مُتَفَرِّقَةٌ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْفَضْلُ، عَنِ الْحَسَنِ ‏{‏طَيْرًا أَبَابِيلَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْكَثِيرَةُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَا الْأَبَابِيل‏:‏ الزُّمَرُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِم، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏أَبَابِيلَ‏)‏ قَالَ‏:‏ هِيَ شَتَّى مُتَتَابِعَةٌ مُجْتَمِعَةٌ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ الْأَبَابِيلُ‏:‏ الْكَثِيرَةُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ الْأَبَابِيلُ‏:‏ الْكَثِيرَةُ‏.‏

حُدِّثَتْ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏طَيْرًا أَبَابِيلَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مُتَتَابِعَةٌ‏.‏ بَعْضُهَا عَلَى أَثَرِ بَعْضٍ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ؛ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏طَيْرًا أَبَابِيلَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْأَبَابِيلُ‏:‏ الْمُخْتَلِفَةُ، تَأْتِي مِنْ هَاهُنَا، وَتَأْتِي مِنْ هَاهُنَا، أَتَتْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ‏.‏

وَذُكِرَ أَنَّهَا كَانَتْ طَيْرًا أُخْرِجَتْ مِنْ الْبَحْرِ‏.‏ وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ جَاءَتْ مِنْ قَبْلِ الْبَحْرِ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي صِفَتِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ كَانَتْ بَيْضَاءَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ كَانَتْ سَوْدَاءَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ كَانَتْ خَضْرَاءَ، لَهَا خَرَاطِيمٌ كَخَرَاطِيمِ الطَّيْرِ، وَأَكُفٍّ كَأَكُفِّ الْكِلَابِ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏طَيْرًا أَبَابِيلَ‏}‏ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ هِيَ طَيْرٌ، وَكَانَتْ طَيْرًا لَهَا خَرَاطِيمٌ كَخَرَاطِيمِ الطَّيْرِ، وَأَكُفٍّ كَأَكُفِّ الْكِلَابِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ خَلَفِ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ وَرَوْحُ بْنُ عِبَادَةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ عِكْرِمَةََ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏طَيْرًا أَبَابِيلَ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَتْ طَيْرًا خَرَجَتْ خُضْرًا، خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ، لَهَا رُءُوسٌ كَرُءُوسِ السِّبَاعِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ‏{‏طَيْرًا أَبَابِيلَ‏}‏ قَالَ‏:‏ هِيَ طَيْرٌ سُودٌ بَحْرِيَّةٌ، فِي مَنَاقِرهَا وَأَظْفَارِهَا الْحِجَارَةُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ عُبَيْدَ بْنِ عُمَيْرٍ‏:‏ ‏{‏طَيْرًا أَبَابِيلَ‏}‏ قَالَ‏:‏ سُودٌ بِحْرِّيَّةٌ، فِي أَظَافِيرِهَا وَمَنَاقِيرِهَا الْحِجَارَةُ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ خَارِجَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ لَهَا خَرَاطِيمٌ كَخَرَاطِيمِ الطَّيْرِ، وَأَكُفٍّ كَأَكُفِّ الْكِلَابِ‏.‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عَطَاءٍ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏طَيْرًا أَبَابِيلَ‏}‏ قَالَ‏:‏ طَيْرٌ خُضْرٌ، لَهَا مَنَاقِيرُ صُفْرٍ، تَخْتَلِفُ عَلَيْهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ‏:‏ طَيْرٌ سُودٌ تَحْمِلُ الْحِجَارَةَ فِي أَظَافِيرِهَا وَمَنَاقِيرِهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ تَرْمِي هَذِهِ الطَّيْرُ الْأَبَابِيلُ الََّّتِي أَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَى أَصْحَابِ الْفِيلِ، بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى سِجِّيلٍ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا، غَيْرَ أَنَّا نَذْكُرُ بَعْضَ مَا قِيلَ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، مِنْ أَقْوَالٍ مَنْ لَمْ نَذْكُرْهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عِكْرِمَةََ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ طَينٌ فِي حِجَارَةٍ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الذَّارِعُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيعٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةََ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ مِنْ طِينٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ السُّدِّيِ، عَنْ عِكْرِمَةََ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ سنك وكل‏.‏

حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الذَّارِعُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْن أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ عِكْرِمَةََ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ مِنْ طِينٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ شَرْقِيٍّ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ سنك وكل‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ عِكْرِمَةََ، قَالَ‏:‏ كَانَتْ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مَعَهَا، قَالَ‏:‏ فَإِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمْ خَرَجَ بِهِ الْجُدَرِيُّ، قَالَ‏:‏ كَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ رُؤَى فِيهِ الْجُدَرِيُّ؛ قَالَ‏:‏ لَمْ يُرَ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا بَعْدَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَة َ، قَالَ‏:‏ ذَكَرَ أَبُو الْكُنُودِ، قَالَ‏:‏ دُونَ الحِمَّصَةِ وَفَوْقَ الْعَدَسَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَة َ، قَالَ‏:‏ كَانَتِ الْحِجَارَةُ الَّتِي رُمُوا بِهَا أَكْبَرُ مِنْ الْعَدَسَةِ؛ وَأَصْغَرُ مِنْ الحِمَّصَةِ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَة َ، عَنْ عِمْرَانَ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ السُّدِّيِّ، عَنْ عِكْرِمَةََ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ سِجِّيلٌ بِالْفَارِسِيَّةِ‏:‏ سنك وكل، حَجَرٌ وَطِينٌ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ بْنِ سَابِطٍ، قَالَ‏:‏ هِيَ بِالْأَعْجَمِيَّةِ‏:‏ سنك وكل‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ كَانَتْ مَعَ كُلِّ طَيْرٍ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ‏:‏ حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، وَحَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ، فَجَعَلَتْ تَرْمِيهِمْ بِهَا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْن عَبْد الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْن ثَوْر، عَنْ مُعَمِّر، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ هِيَ مِنْ طِينٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ هِيَ طَيْرٌ بِيضٌ، خَرَجَتْ مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ، مَعَ كُلِّ طَيْرٍ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ‏:‏ حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، وَحَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ، وَلَا يُصِيبُ شَيْئًا إِلَّا هَشَمَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثُ بْنُ يَعْقُوبِ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَلَّغَهُ أَنَّ الطَّيْرَ الَّتِي رَمَتْ بِالْحِجَارَةِ كَانَتْ تَحْمِلُهَا بِأَفْوَاهِهَا، ثُمَّ إِذَا أَلْقَتْهَا نَفِطَ لَهَا الْجِلْدُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سَمَاءِ الدُّنْيَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ السَّمَاءُ الدُّنْيَا، قَالَ‏:‏ وَالسَّمَاءُ الدُّنْيَا اسْمُهَا سِجِّيلٌ، وَهِيَ الَّتِي أَنْـزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ‏.‏

قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الطَّيْرَ الَّتِي رَمَتْ بِالْحِجَارَةِ أَنَّهَا طَيْرٌ تَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ، وَأَنَّ سِجِّيلًا‏:‏ السَّمَاءُ الدُّنْيَا‏.‏ وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ لَا نَعْرِفُ لِصِحَّتِهِ وَجْهًا فِي خَبَرٍ وَلَا عَقْلٍ، وَلَا لُغَةٍ، وَأَسْمَاءُ الْأَشْيَاءِ لَا تُدْرَكُ إِلَّا مِنْ لُغَةٍ سَائِرَةٍ، أَوْ خَبَرٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏.‏

كَانَ السَّبَبُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ حَلَّتْ عُقُوبَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، مَسِيرُ أَبِرِهَةَ الْحَبَشِيِّ بِجُنْدِهِ مَعَهُ الْفِيلُ، إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ لِتَخْرِيبِهِ‏.‏

وَكَانَ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، أَنْ أَبَرْهَةَ بَنَى كَنِيسَةً بِصَنْعَاءَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، فَسَمَّاهَا الْقُلَّيْسَ؛ لَمْ يُرِ مِثْلَهَا فِي زَمَانِهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْأَرْضِ؛ وَكُتُبٍ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلَكُ الْحَبَشَةِ‏:‏ إِنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَك أَيُّهَا الْمَلَكُ كَنِيسَة لَمْ يَبْنِ مِثْلَهَا لِمَلَكٍ كَانَ قَبْلُكُ، وَلَسْتُ بِمُنْتَهٍ حَتَّى أَصْرِفَ إِلَيْهَا حَاجَّ الْعَرَبِ‏.‏ فَلَمَّا تَحَدَّثَتِ الْعَرَبُ بِكِتَابِ أَبَرْهَةَ ذَلِكَ لِلنَّجَاشِيِّ، غَضِبَ رَجُلٍ مِنْ النَّسْأَةِ أَحَدُ بَنِي فُقَيْمٍ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي مَالِكٍ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى القُلَّيْسَ، فَقَعَدَ فِيهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَلَحِقَ بِأَرْضِهِ، فَأُخْبِرَ أَبِرِهَةُ بِذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ صَنَعَ هَذَا‏؟‏ فَقِيلَ‏:‏ صَنَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي تَحُجُّ الْعَرَبَ إِلَيْهِ بِمَكَّةَ، لَمَّا سَمِعَ مِنْ قَوْلِك‏:‏ أَصْرِفُ إِلَيْهِ حَاجَّ الْعَرَبِ، فَغَضِبَ، فَجَاءَ فَقَعَدَ فِيهَا؛ أَيْ‏:‏ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِذَلِكَ بِأَهْلٍ؛ فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبَرْهَةُ، وَحَلِفَ لِيَسِيرَنَّ إِلَى الْبَيْتِ فَيَهْدِمُهُ، وَعِنْدَ أَبَرْهَةَ رِجَالٌ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ قَدِمُوا عَلَيْهِ يَلْتَمِسُونَ فَضْلَهُ، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ خُزَاعيِّ بْنِ حِزَابَةَ الذَّكْوَانِيُّ، ثُمَّ السُّلَمي، فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ، مَعَهُ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ قَيْسُ بْنُ خُزَاعِيِّ؛ فَبَيْنَمَا هُمْ عِنْدَهُ، غَشِيَهُمْ عَبْدٌ لِأَبْرَهَةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ فِيهِ بِغِذَائِهِ، وَكَانَ يَأْكُلُ الْخُصَى؛ فَلَمَّا أَتَى الْقَوْمَ بِغِذَائِهِ، قَالُوا‏:‏ وَاللَّهِ لَئِنْ أَكَلْنَا هَذَا لَا تَزَالُ تَسُبُّنَا بِهِ الْعَرَبُ مَا بَقِينَا، فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ خُزَاعِيِّ، فَجَاءَ أَبَرْهَةَ فَقَالَ‏:‏ أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ لَنَا، لَا نَأْكُلُ فِيهِ إِلَّا الْجَنُوبُ وَالْأَيْدِي، فَقَالَ لَهُ أَبَرْهَةَ‏:‏ فَسَنَبْعَثُ إِلَيْكُمْ مَا أَحْبَبْتُمْ، فَإِنَّمَا أَكْرَمْتُكُمْ بِغِذَائِي، لِمَنْـزِلَتِكُمْ عِنْدِي‏.‏

ثُمَّ إِنَّ أَبْرَهَةَ تَوَّجَ مُحَمَّدَ بْنَ خُزَاعِيِّ، وَأَمَّرَهُ عَلَى مُضَرٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ فِي النَّاسِ، يَدْعُوهُمْ إِلَى حَجٍّ القُلَّيسِ، كَنِيسَتُهُ الَّتِي بَنَاهَا، فَسَارَ مُحَمَّدُ بْنُ خُزَاعِيِّ، حَتَّى إِذَا نَـزَلَ بِبَعْضِ أَرْضِ بَنِي كِنَانَةَ، وَقَدْ بَلَغَ أَهْلُ تِهَامَةَ أَمْرَهُ، وَمَا جَاءَ لَهُ، بَعَثُوا إِلَيْهِ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ حِيَاضِ الْمُلَاصَيِّ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ؛ وَكَانَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ خُزَاعِيِّ أَخُوهُ قَيْسُ بْنُ خُزَاعِيِّ، فَهَرَبَ حِينَ قُتِلَ أَخُوهُ، فَلَحِقَ بِأَبْرَهَةَ فَأَخْبَرَهُ بِقَتْلِهِ، فَزَادَ ذَلِكَ أَبْرَهَةَ غَضَبًا وَحَنَقًا، وَحَلِفَ لَيَغْزُوَنَّ بَنِي كِنَانَةَ، وَلَيَهْدِمُنَّ الْبَيْتَ‏.‏

ثُمَّ إِنْ أَبَرْهَةَ حِينَ أَجْمَعَ السَّيْرَ إِلَى الْبَيْتِ، أَمَرَ الْحُبْشَانِ فَتَهَيَّأَتْ وَتَجَهَّزَتْ، وَخَرَجَ مَعَهُ بِالْفِيلِ، وَسَمِعَتِ الْعَرَبُ بِذَلِكَ، فَأَعْظَمُوهُ، وفُظِعُوا بِهِ، وَرَأَوْا جِهَادَهُ حَقًّا عَلَيْهِمْ، حِينَ سَمِعُوا أَنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ الْكَعْبَةِ، بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَمُلُوكِهِمْ، يُقَالُ لَهُ ذُو نَفْرِ، فَدَعَا قَوْمَهُ وَمَنْ أَجَابَهُ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ، إِلَى حَرْبِ أَبَرْهَةَ، وَجِهَادَهُ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ، وَمَا يُرِيدُ مِنْ هَدْمِهِ وَإِخْرَابِهِ، فَأَجَابَهُ مَنْ أَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَعَرَضَ لَهُ، وَقَاتَلَهُ، فَهُزِمَ وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، وَأُخِذَ لَهُ ذُو نَفَرِ أَسِيرًا؛ فَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ، قَالَ ذُو نَفَرِ‏:‏ أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا تَقْتُلُنِي، فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَائِي مَعَكَ خَيْرًا لَكَ مِنْ قَتْلِي؛ فَتَرَكَهُ مِنَ الْقَتْلِ، وَحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي وِثَاقٍ‏.‏ وَكَانَ أَبَرْهَةُ رَجُلًا حَلِيمًا‏.‏

ثُمَّ مَضَى أَبَرْهَةُ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ يُرِيدُ مَا خَرَجَ لَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِأَرْضِ خَثْعَمَ، عَرَضَ لَهُ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ فِي قَبِيلَتِي خَثْعَمَ‏:‏ شَهْرَانَ، وَنَاهِسٍ، وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أَبَرْهَةُ، وَأُخِذَ لَهُ أَسِيرًا، فَأْتِي بِهِ؛ فَلَمَّا هَمَّ بِقَتْلِهِ، قَالَ لَهُ نُفَيْلُ‏:‏ أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا تَقْتُلُنِي، فَإِنِّي دَلِيلُكَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، وَهَاتَانِ يَدَايَ لَك عَلَى قَبِيلَتِي خَثْعَمَ‏:‏ شَهْرَانِ، وَنَاهِس، بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ؛ فَأَعْفَاهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَخَرَجَ بِهِ مَعَهُ، يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ؛ حَتَّى إِذَا مَرَّ بِالطَّائِفِ، خَرَجَ إِلَيْهِ مَسْعُودُ بْنُ مَعْتَبٍ فِي رِجَالِ ثَقِيفٍ، فَقَالَ‏:‏ أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّمَا نَحْنُ عَبِيدُكَ، سَامِعُونَ لَكَ مُطِيعُونَ، لَيْسَ لَكَ عِنْدَنَا خِلَافٌ، وَلَيْسَ بَيْتَنَا هَذَا بِالْبَيْتِ الَّذِي تُرِيدُ- يَعْنُونَ اللَّاتَ- إِنَّمَا تُرِيدُ الْبَيْتَ الَّذِي بِمَكَّةَ- يَعْنُونَ الْكَعْبَةَ- وَنَحْنُ نَبْعَثُ مَعَك مَنْ يُدَلَّكُ، فَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ، وَبَعَثُوا مَعَهُمْ أَبَا رِغَالٍ؛ فَخَرَجَ أَبَرْهَةَ وَمَعَهُ أَبُو رِغَالٍ حَتَّى أَنْـزَلَهُ الْمُغَمِّسَ، فَلَمَّا أَنْـزَلَهُ بِهِ مَاتَ أَبُو رِغَالٍ هُنَاكَ، فَرَجَمَتِ الْعَرَبُ قَبْرَهُ، فَهُوَ الْقَبْرُ الَّذِي تَرْجُمُ النَّاسُ بِالْمُغَمِّسِ‏.‏

وَلَمَّا نَـزَلَ أَبَرْهَةُ الْمُغَمَّسَ، بَعَثَ رَجُلًا مِنَ الْحَبَشَةِ، يُقَالُ لَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ مَقْصُودٍ، عَلَى خَيْلٍ لَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ، فَسَاقَ إِلَيْهِ أَمْوَالَ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، وَأَصَابَ فِيهَا مِئَتَيْ بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا؛ وَهَمَّتْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَهُذَيْلٌ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ بِالْحَرَمِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ بِقِتَالِهِ، ثُمَّ عَرَفُوا أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، فَتَرَكُوا ذَلِكَ، وَبَعَثَ أَبَرْهَةُ حِنَاطَةَ الْحَمِيرِيَّ إِلَى مَكَّةَ، وَقَالَ لَهُ‏:‏ سَلْ عَنْ سَيِّدِ هَذَا الْبَلَدِ وَشَرِيفِهِمْ، ثُمَّ قُلْ لَهُ‏:‏ إِنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ لَكُمْ‏:‏ إِنِّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ، إِنَّمَا جِئْتُ لِهَدْمِ الْبَيْتِ، فَإِنْ لَمْ تُعْرِضُوا دُونَهُ بِحَرْبٍ فَلَا حَاجَةَ لِي بِدِمَائِكُمْ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ حَرْبِي فَأْتِنِي بِهِ‏.‏

فَلَمَّا دَخَلَ حِنَاطَةُ مَكَّةَ، سَأَلَ عَنْ سَيِّدِ قُرَيْشٍ وَشَرِيفِهَا، فَقِيلَ‏:‏ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ بْنُ قُصَيٍّ، فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَبِرِهَةُ، قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ‏:‏ وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ، وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ؛ هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ، وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوْ كَمَا قَالَ- فَإِنْ يَمْنَعْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ، وَإِنْ يَخْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَو اللَّهِ مَا عِنْدَنَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ عَنْهُ، أَوْ كَمَا قَالَ؛ فَقَالَ لَهُ حِنَاطَةُ‏:‏ فَانْطَلَقَ إِلَى الْمَلِكِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِكَ‏.‏ فَانْطَلَقَ مَعَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَمَعَهُ بَعْضُ بَنِيهِ، حَتَّى أَتَى الْعَسْكَرَ، فَسَأَلَ عَنْ ذِي نَفَرٍ، وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا، فَدَلَّ عَلَيْهِ، فَجَاءَهُ وَهُوَ فِي مَحْبِسِهِ، فَقَالَ‏:‏ يَا ذَا نَفَرِ، هَلْ عِنْدَكَ غَنَاءٌ فِيمَا نَـزَلَ بِنَا‏؟‏ فَقَالَ لَهُ ذُو نَفَر، وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا‏:‏ وَمَا غِنَاءُ رَجُلٍ أَسِيرٍ فِي يَدِي مَلِكٍ، يَنْتَظِرُ أَنْ يَقْتُلَهُ غُدُوًّا أَوْ عَشِيًّا‏!‏ مَا عِنْدِي غَنَاءٌ فِي شَيْءٍ مِمَّا نَـزَلَ بِكَ، إِلَّا أَنْ أَنِيسًا سَائِقَ الْفِيلِ لِي صَدِيقٌ، فَسَأُرْسِلُ إِلَيْهِ، فَأُوصِيه بِكَ، وَأُعَظِّمُ عَلَيْهِ حَقَّكَ، وَأَسْالُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَكَ عَلَى الْمَلِكِ، فَتُكَلِّمُهُ بِمَا تُرِيدُ، وَيَشْفَعُ لَك عِنْدَهُ بِخَيْرٍ، إِنْ قَدْرَ عَلَى ذَلِكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ حَسْبِي، فَبَعَثَ ذُو نَفَر إِلَى أَنِيسٍ، فَجَاءَ بِهِ، فَقَالَ‏:‏ يَا أَنِيسُ إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ سَيِّدُ قُرَيْشٍ، وَصَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ، يُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ، وَالْوُحُوشِ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَقَدْ أَصَابَ الْمَلِكُ لَهُ مِئَتَيْ بَعِيرٍ، فَاسْتَأْذِنْ لَهُ عَلَيْهِ، وَانْفَعْهُ عِنْدَهُ بِمَا اسْتَطَعْتَ، فَقَالَ‏:‏ أَفْعَلُ‏.‏

فَكَلَّمَ أَنِيسُ أَبَرْهَةَ، فَقَالَ‏:‏ أَيُّهَا الْمَلِكُ، هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ بِبَابِكَ، يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ، وَهُوَ صَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ، يُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ، وَالْوُحُوشِ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَأْذَنْ لَهُ عَلَيْكَ، فَلْيُكَلِّمْكَ بِحَاجَتِهِ، وَأَحْسِنْ إِلَيْهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَأَذِنَ لَهُ أَبَرْهَةُ، وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ رَجُلًا عَظِيمًا وَسِيمًا جَسِيمًا؛ فَلَمَّا رَآهُ أَبَرْهَةُ أَجَلَّهُ وَأَكْرَمَهُ أَنْ يَجْلِسَ تَحْتَهُ، وَكَرِهَ أَنْ تَرَاهُ الْحَبَشَةُ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، فَنَـزَلَ أَبَرْهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطِهِ، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَيْهِ إِلَى جَنْبِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ‏:‏ قُلْ لَهُ مَا حَاجَتُكَ إِلَى الْمَلِكِ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ التُّرْجُمَانُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ‏:‏ حَاجَتِي إِلَى الْمَلِكِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ مِئَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي؛ فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ أَبَرْهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ‏:‏ قُلْ لَهُ‏:‏ قَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، ثُمَّ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتِنِي، أَتُكَلِّمُنِي فِي مِئَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ، وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ، قَدْ جِئْتُ لِهَدْمِهِ فَلَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ‏؟‏ قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ‏:‏ إِنِّي أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ، وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رَبًّا سَيَمْنَعُهُ، قَالَ‏:‏ مَا كَانَ لِيُمْنَعَ مِنِّي، قَالَ‏:‏ فَأَنْتَ وَذَاكَ، ارْدُدْ إِلَيَّ إِبِلِي‏.‏

وَكَانَ فِيمَا زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ ذَهَبَ مَعَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى أَبَرْهَةَ، حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِ حِنَاطَةَ، يَعْمُرُ بْنُ نَفَّاثَة بْنِ عَدِيٍّ بْنِ الدَّيْلِ بْنِ بَكْرٍ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ بْنِ كِنَانَةَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ بَنِي كِنَانَةَ، وَخُوَيْلِدُ بْنُ وَاثِلَةَ الْهُذَلِيُّ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ هُذَيْلٍ، فَعَرَضُوا عَلَى أَبَرْهَةَ ثُلُثَ أَمْوَالِ تِهَامَةَ، عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُمْ، وَلَا يَهْدِمَ الْبَيْتَ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

وَكَانَ أَبَرْهَةُ، قَدْ رَدَّ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْإِبِلَ الَّتِي أَصَابَ لَهُ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا عَنْهُ انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ، فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، وَالتَّحَرُّزِّ فِي شَعَفِ الْجِبَالِ وَالشِّعَابِ، تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ؛ ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ، بَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللَّهَ، وَيَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى أَبَرْهَةَ وَجُنْدَهُ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ آخِذُ حَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ‏:‏

يَـا رَبِّ لَا أرْجُـو لَهُـمْ سِـوَاكَا *** يَـا رَبِّ فَـامْنَعْ مِنْهُـمُ حِمَاكَـا

إِنَّ عَـدُوَّ الْبَيْـتِ مَـنْ عَادَاكَـا *** امْنَعْهُـمُ أَنْ يُخَـرَّبُوا قُرَاكَـا

وَقَالَ أَيْضًا‏:‏

لَا هُـمَّ إِنَّ العَبْـدَ يَـمْ *** نَـعُ رَحْلَـهُ فَـامْنَعْ حِـلَالَكْ

لَا يَغْلِبَـنَّ صَلِيبُهُـمْ *** ومِحَـالُهُمْ غَـدْوا مِحَـالَكْ

فَلَئِـنْ فَعَلْـتَ فَرُبَّمَـا *** أَوْلَـى فَـأَمْرٌ مَـا بَـدَا لَـكْ

وَلئِـنْ فَعَلْـتَ فإنَّـهُ *** أمْـرٌ تُتِـمُّ بِـهِ فِعَـالَكْ

وَقَالَ أَيْضًا‏:‏

وكُـنْتُ إِذَا أَتَـى بَـاغٍ بِسَـلْمٍ *** نُرَجِّـي أَنْ تَكُـونَ لَنَـا كَـذلِكْ

فَوَلَّـوْا لَـمْ يَنـالُوا غَـيْرَ خِـزْيٍ *** وكـانَ الحَـيْنُ يُهْلِكُـهُمْ هُنَـالِكْ

وَلَـمْ أسْـمَعْ بـأرْجَسَ مِـنْ رِجـالٍ *** أَرَادُوا العِـزَّ فَـانْتَهَكُوا حَـرامَكْ

جَـرُّوا جُـمُوعَ بِلادِهِـمْ *** والْفِيـلَ كَـيْ يَسـبُوا عِيَـالَكْ

ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حَلْقَةَ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَانْطَلَقَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى شَعَفِ الْجِبَالِ، فَتَحَرَّزُوا فِيهَا، يَنْتَظِرُونَ مَا أَبَرْهَةُ فَاعِلٌ بِمَكَّةَ إِذَا دَخَلَهَا؛ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبَرْهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَهَيَّأَ فِيلَهُ، وَعَبَّأَ جَيْشَهُ، وَكَانَ اسْمُ الْفِيلِ مَحْمُودًا، وَأَبْرَهَةُ مُجْمِعٌ لِهَدْمِ الْبَيْتِ، ثُمَّ الِانْصِرَافُ إِلَى الْيَمَنِ‏.‏ فَلَمَّا وَجَّهُوا الْفِيلَ، أَقْبَلَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ، حَتَّى قَامَ إِلَى جَنْبِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ فَقَالَ‏:‏ ابْرُكْ مَحْمُودٌ، وَارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْتَ، فَإِنَّكَ فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ؛ ثُمَّ أَرْسَلَ أُذُنَهُ، فَبَرَكَ الْفِيلُ، وَخَرَجَ نُفَيلُ بْنُ حَبِيبٍ يَشْتَدُّ حَتَّى أُصْعِدَ فِي الْجَبَلِ‏.‏ وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى، وَضَرَبُوا فِي رَأْسِهِ بِالطَّبْرَزِينِ لِيَقُومَ، فَأَبَى، فَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ لَهُمْ فِي مِرَاقِهِ، فَبَزَغُوهُ بِهَا لِيَقُومَ، فَأَبَى، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَامَ يُهَرْوِلُ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنْ الْبَحْرِ، أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ، مَعَ كُلِّ طَيْرٍ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا‏:‏ حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ، وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ مِثْلَ الْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ، لَا يُصِيبُ مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ، وَلَيْسَ كُلُّهمْ أَصَابَتْ، وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ الَّذِي مِنْهُ جَاءُوا، وَيَسْأَلُونَ عَنْ نُفَيْلِ بْنِ حَبِيبٍ، لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ نُفَيلُ بْنُ حَبِيبٍ حِينَ رَأَى مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ نِقْمَتِهِ‏:‏

أيْـنَ الْمَفَـرُّ وَالَإِلَـهُ الطَّـالِبْ *** وَالْأَشْـرَمُ المَغْلُـوبُ غَـيْرُ الْغَـالِبْ

فَخَرَجُوا يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَيَهْلِكُونَ عَلَى كُلِّ مَنْهَلٍ، فَأُصِيبَ أَبَرْهَةُ فِي جَسَدِهِ، وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ، فَسَقَطَتْ أَنَامِلُهُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً، كُلَّمَا سَقَطَتْ أُنْمُلَةٌ أَتْبَعَتْهَا مِدَّةً تَمُثُّ قَيْحًا وَدَمًا، حَتَّى قَدِمُوا بِهِ صَنْعَاءَ، وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّيْرِ، فَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ فِيمَا يَزْعُمُونَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَتَبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ، أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ أَوَّلَ مَا رُؤيَتِ الْحَصْبَةُ وَالْجُدَرِيُّ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ذَلِكَ الْعَامَ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَا رُؤيَ بِهَا مُرَارُ الشَّجَرِ‏:‏ الْحَرْمَلُ وَالْحَنْظَلُ وَالْعُشْر ذَلِكَ الْعَامَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ‏}‏ أَقْبَلَ أَبَرْهَةُ الْأَشْرَمُ مِنْ الْحَبَشَةِ يَوْمًا وَمَنْ مَعَهُ مِنْ عِدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، إِلَى بَيْتِ اللَّهِ لِيَهْدِمَهُ مِنْ أَجْلِ بَيْعَةٍ لَهُمْ أَصَابَهَا الْعَرَبُ بِأَرْضِ الْيَمَنِ، فَأَقْبَلُوا بِفِيلِهِمْ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّفَّاحِ بَرَكَ؛ فَكَانُوا إِذَا وَجَّهُوهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ أَلْقَى بِجِرَانِهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِذَا وَجَّهُوهُ إِلَى بَلَدِهِمْ انْطَلَقَ وَلَهُ هَرْوَلَةٌ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِنَخْلَةِ الْيَمَانِيَةِ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا بِيضًا أَبَابِيلَ‏.‏ وَالْأَبَابِيلُ‏:‏ الْكَثِيرَةُ، مَعَ كُلِّ طَيْرٍ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ‏:‏ حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، وَحَجَرٍ فِي مِنْقَارِهِ، فَجَعَلَتْ تَرْمِيهِمْ بِهَا حَتَّى جَعَلَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ؛ قَالَ‏:‏ فَنَجَا أَبُو يَكْسُومٍ وَهُوَ أَبَرْهَةُ، فَجَعَلَ كُلَّمَا قَدِمَ أَرْضًا تَسَاقَطَ بَعْضُ لَحْمِهِ، حَتَّى أَتَى قَوْمَهُ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ ثُمَّ هَلَكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ‏}‏‏.‏

يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَجَعَلَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْفِيلِ كَزَرْعٍ أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ فَرَاثَتْهُ، فَيَبِسَ وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ؛ شَبَّهَ تَقَطُّعَ أَوْصَالِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ الَّتِي نَـزَلَتْ بِهِمْ، وَتَفَرُّقَ آرَابِ أَبْدَانِهِمْ بِهَا، بِتَفَرُّقِ أَجْزَاءِ الرَّوْثِ، الَّذِي حَدَثَ عَنْ أَكْلِ الزَّرْعِ‏.‏

وَقَدْ كَانَ بَعْضهمْ يَقُولُ‏:‏ الْعَصْفُ‏:‏ هُوَ الْقِشْرُ الْخَارِجُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى حَبِّ الْحِنْطَةِ مِنْ خَارِجٍ، كَهَيْئَةِ الْغِلَاف لَهَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ عُنِيَ بِذَلِكَ وَرَقُ الزَّرْعِ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ وَرَقُ الْحِنْطَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ التِّبْنُ‏.‏

وَحُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ‏}‏‏:‏ كَزَرْعٍ مَأْكُولٍ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا زُرَيْقُ بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا هُبَيْرَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ الْهَبُورُ بِالنَّبْطِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ الْمَقْهُورُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ وَرَقُ الزَّرْعِ وَوَرَقُ الْبَقْلِ، إِذَا أَكَلَتْهُ الْبَهَائِمُ فَرَاثَتْهُ، فَصَارَ رَوْثًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ‏:‏ عُنِيَ بِهِ قِشْرُ الْحَبِّ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْبُرُّ يُؤْكَلُ وَيُلْقَى عَصْفَهُ الرِّيحُ، وَالْعَصْفُ‏:‏ الَّذِي يَكُونُ فَوْقَ الْبُرِّ‏:‏ هُوَ لِحَاءُ الْبُرِّ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ‏:‏ ‏{‏كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَطَعَامٍ مَطْعُومٍ‏.‏

آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفِيلِ